lundi 2 mars 2009

رؤية حول الفنّ

كلّما فكّرت في الفنّ أجده يحيي عظام الميّتين، الفنّان بالموسيقي يغسل القلوب الحجريّة، يعيش في فرح الشّعب وحزن الشّعب، موجود في عرق العمّال وفي قلوب العاشقين، يسلّمون كلّهم عليه، يقبّلون كلّهم يديه، فنّه من صوت كلّ موجة وصوت كلّ طائر، من تفتّح الأزهار ومن الأشجار والغيوم، فنّه في صدر كلّ مؤمن وكلّ ثائر، في الصّحو والأنواء الفنّان يعطي ويثمر ، في النّصر والهزيمة يزرع ويبذر..
له لغة حرّة يتعامل معها تسكره وتبعث فيه نشوة وحين يغنّيها تأخذه بها هزّة عنفوان مبحرا نحو فضاءات أخري...
الفنّان إنسان حرّ لا يحبّ السّلطة ولا يحبّ من يتسلّط عليه، لا يحبّ أن يستعبد النّاس ولا يحبّ من يستعبده
كلّ الأشواك يحوّلها ريحان، وكلّ الأتعاب يحوّلها راحة، وكلّ الجراح يحوّلها أفراح، الفنّان إنسان يخترع الأحلام والقصيدة تطلع منه كمطلع الفجر، كمطلع الورد وتجعل النّاس في رحلة من أبدع الرّحلات، حين يغنّي يطرب النّفوس ويشفيها وكأنّه ربّ قد إجتمع بالنّاس في جمهوريّة الإحساس، كأنّه يودّ أن يمسح علي النّاس الحزن ويحيي شعبا من الأطيار والأزهار، كلّ يوم يصنع الفنّان أملا جديدا، كلّ يوم يخترع قصيدة حبّ يحاول أن يحيي بها عصافير وحقول ، كلّ يوم يحاول أن يصنع أغنية تجعل النّاس ينامون في أحضان العشق والحنان.
الفنّان دائم البحث على نصّ جديد يحاول أن يبحث عن أشياء تخرج النّاس من تحت الأنقاظ والجليد، فهو يشعل الذّاكرة ويشعل المشاعر ويغضب ويصرخ ويتألّم ويضحّي من أجل أن يأتي الجمال والنّشيد.
.يبيع الفنّان الدّنيا من أجل موّال يفعل في النّاس كما يفعل الزّلزال، المواويل عنده تزرع كما تزرع الأشجار وتهاجر وترجع كما ترجع الأطيار فعندما نستمع لموّال ذاك الزّمن نقول آه كم كان رائعا، يعود لنا معه العشق والفرح والحبّ الجميل وأيّام الطّفولة والشّباب وتراقصنا الكلمات في رقّة التّعبير..

مع الفنّان تلغي حدود الزّمان والمكان فهو إنسان يعيش بين الحقيقة والخيال ويأخذ النّاس في منطق الحبّ إلى ألف إحتمال وإحتمال كي يكسّر الضّجر، فهو ينسحق في حبّ عظيم ومتي ضربه برق العشق تجده يمنح الخير الكثير والرّزق الكثير ويزداد لديه الرّخاء وتزداد ضياءا قناديل السّماء ويتضخّم إحساسه بالأشياء، ومتي ضربه الحزن والخيانة يشعر بشهوة طفوليّة في إرتكاب الخطايا وتظهر عليه وعلى فنّه علامات الحزن والأشجان والشّقاء ، كلّ هم الفنّان بهجة القلوب فهو يشتغل بفاكهة الفكر والعاطفة والأصوات يتعامل بهم ويختارهم كأعشاب الرّبيع ويسكن بهم في ذاكرة الشّعب وعطر الياسمين، ليس للفنّان حبّ كبير للمال ورصيده هو قلب حسّاس وضمير. الفنّان يري الدّنيا بقلبه يقرأها بالحبّ والعشق وكأنّ الّّذي صمّم أشكال هذه الدّنيا هو بالأساس فنّان مبدع عاشق للحياة وقادر أن يحوّل اللّيل إلى نهار وقادر أن يحوّل الحزن إلى فرح والموت إلى حياة. الفنّان لا يقدر أن يبدع إلاّ في دنيا الحبّ والحريّة. فمصلحته الأولي هي رضاء النّاس عليه، فهو يموت لأجل أغنية تمسّ أعماق النّاس ، فالأغنية الخالدة تتطلّب منه مجهود كبير ثلاثيّ الأبعاد فيلزمها الكلمة الجميلة واللّحن الجميل والصّوت الجميل..
يستبشر النّاس حين يلتقون بفنّان وإن سألت أحدهم قال لك سبحان اللّه كأنّه ملاك حين يغنّي يغيّر الأحوال ويجعلنا نستنشق الهواء الطّلق، نأتيه من كلّ صوب، نأتيه لكي يغسل غبارنا ويزرع لنا الورد والعصافير في حدائق الضّمير، فحين يغنّي ينبت في صوتنا كلاما جميلا كأنّه ينتحل مشاعرنا وحين ينشد لنا عذاباتنا في الحبّ والحريّة تأخذنا حالة من التّجلّي وتستيقظ العيون والمشاعر وكأنّنا أسراب من الطّيور مبحرة نحو مملكة العشق والعاشقين..
تتراقص الأضواء خلف نعش الفنّان فجسده سوف يغدو على ملك العشّاق قبره لا يزوره إلاّ العشّاق هو عصفور لم يمت وإنّما ذهب ليكتشف الآفاق ويعيش حقيقة الحبّ والحريّة والأشواق، فشكرا لك أيّها السّخيّ، شكرا لانّك أبعدت عنّا الخوف والرّعب وزرعت فينا الضّياء والجمال شكرا على مواسم الفرح، ماذا سنفعل في غيابك، غيابك لم يحدث ورحلتك لم تتمّ، أنت تسكن في القلب ولن نجعلك خارج خريطة عواطفنا.. رسالتك الصّادقة مسكا وعنبر تنتظرك لتنام كالعصفور بين يديك.
النّاس يحبّونك على مستوي النّار والجنون وحين تغادرهم يدخلون في نوبة بكاء وحمّي ويضربون عن الطّعام، وهناك من يستشهدون لأجلك فنحن ورائك نرفع لافتات الحبّ والحريّة ونعلّق على صورتك الزّهور ونطالب أن يحكم الفنّانين العظماء العالم ويكسّروا جدران الحرب والحزن والوحشيّة والعبوديّة.
الفنّان له أخلاق وعنفوان وحساسيّة ليست لدي كلّ البشر، فالكلمة عنده تفعل مثل الدّواء تشفي المرضي وتداوي المتعبين فهو مبعوث للنّاس كي يزرع في قلوبهم الرّبيع والأمل والجمال، الفنّان العظيم يقاس بمقدرته على إسعاد النّاس ومسح الغيم والحزن من قلوبهم وفرض الإشراق والبهاء، مع الفنّان العظيم يعيش الجمهور إنفعال رائع فهو يترك حرائق على القلوب ونجاحه حين يقف أمام النّاس متجرّدا من الثّياب المسرحيّة ويمارس الفنّ بكلّ ما فيه من براءة وحرارة وصدق، إنّها اللّحظات الصّادقة التّي يشعر فيها الجمهور بأنّ هذا الفنّان يعبّر عن المنطق الدّاخلى للنّفوس ويريد أن يفصل النّاس عن سلطة القمع والحسابات الصّارمة، فهو لا يخون أيّ أحد ولا يعتدي على أيّ أحد لكنّه يقول العشق ولا يختجل به ويجد الشّجاعة الكافية لإلقاء أعداء الحبّ والحريّة في النّار.
فالأغنية تفرح ناس وتبكي ناس وتسعد ناس وتؤلم ناس، وكلّ ما يطلبه الفنّان من الجمهور هو ترك الحبّ يجري حافيا في الأزقّة والشّوارع ويطير حرّا في الفضاء كي لا تحترق البلاد والعباد من شدّة الحزن.. فليس سهلا أن يقول الإنسان على نفسه أنّه فنّان، فالشّعب هو الّذي يختاره وينتخبه لأنّه فنّان لا يلبس الملابس التّنكريّة، فهو يمارس حريّته ليقول ما يشاء، ويتحرّك كما يشاء في الوقت الّذي يشاء وجائزته الكبري أن يكتب إسمه في ذاكرة الورد، وفوق الرّمال والبحر،

.

Aucun commentaire: